وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
لا بدّ من الإشارة إلى أنّ اختلاف الاسم لا يدلّ بالضرورةِ على اختلاف المسمّى، فالشيء الواحد قد نطلق عليه أسماءً عدّة باختلاف النظر إليه، فزيدٌ مثلاً رجلٌ متزوّج ولديه أولاد وله إخوة ويعمل في الحراسة، يطلق عليه ألفاظ: زوج وأب وعامل وحارس وابن... إلى ما هنالك من أوصاف.
فالاختلاف في الاسم بحسب جهة النظر.
وبناءً عليه، ندخل إلى محلّ الكلام، فالناس في مصيرهم منقسمون إلى فئتين: ﴿ فرَيِق فِيِ ٱلۡجَۡنةَّ وَفرَيِق فِيِ ٱلسَّعيِر﴾ِ ، وقد عُبّر هنا عن النار بالسعير، ولا نشكّ في أنّ السعير هي النار البتّة.
والجنّة التي يدخلها المؤمنون لا ريب في أنّها ذات درجات؛ لاختلاف درجات الناس الداخلين إليها. ولكن لا دليل على أنّ الأسماء المختلفة في الجنّة هي أسماء للدرجات المختلفة. بل الدليل قائم على العكس، حيث عُبّر في سورة المؤمنون بعد ذكر أوصاف المؤمنين بقوله تعالى: ﴿ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلۡفِرۡدَوۡسَ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾، وعبّر في آية أخرى: ﴿إنَِّ ٱلذَِّينَ ءاَمَنوُا وَعَملِوُا مَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُواْ َٱلصَّلٰحَِتِٰ كَانتَۡ لهَُمۡ جَنَّتُٰ ٱلفۡرِۡدَوۡسِ نزُُلاً﴾، وعبّر في آية ثالثة: ﴿أمّا ٱلذَِّينَ ءاَمَنوُا ۡوَعَمِلُوا ٱلصَّلٰحَِٰتِ فَلَهُمۡ جَنَّٰتُ ٱلمَۡأوَىٰ نُزُلَاۢ﴾، فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنّات الفردوس وفي جنّات المأوى، فالفردوس هي المأوى، والذين آمنوا وعملوا الصالحات هم الفريق الذي في الجنّة، الذين يقابلون الفريق الذي في السعير. وفي آية رابعة:﴿وَعَدَ ٱللّهُ ٱلۡمُؤۡمِنِينَ وَٱلۡمُؤۡمِنَٰتِ جَنَّٰتٖ تَجۡرِي منِ تحَۡتهَِا ٱلأۡنهَۡرُٰ خَلٰدِِينَ فيِهَا وَمَسَٰكِنَ طَيبِّةَٗ فيِ جَنَّتِٰ عَدۡنٖۚ وَرضِۡوَان مّنَِ ٱللَّهَّ أكبر، ذَلٰكَِ هُوَ ٱلۡفَوۡزُ ٱلۡعَظِيمُ﴾، وهل يشكّ إنسانٌ في أنّ المؤمنين والمؤمنات هؤلاء ليسوا غير الذين آمنوا وعملوا الصالحات؟ لا شكّ في أنّهم هم أنفسهم.
فالذين آمنوا وعملوا الصالحات في جنّات عدن أيضًَا، فجنّات عدن هي جنّات الفردوس وهي جنّة المأوى. وفي آية خامسة: ﴿إنَِّ ٱلذَِّينَ ءَامَنُوا وَعَمِلوُا َٱلصَّٰلِحَٰتِ يَهۡدِيهِمۡ رَبُّهُم بِإِيمَٰنِهِمۡ تَجۡرِي مِن تَحۡتِهِمُ ٱلۡأنۡهَٰرُ فِي جَنَّٰتِ ٱلنَّعِيمِ﴾، فهم أيضًا في جنّات النعيم، وهكذا... فاتّضح أنّ هذه الأسماء أسماء لمسمّى واحد، وهو الجنّة التي تقابل النار.
فإنّما البحث عن سرّ تغاير التعبير في الآيات، وهذا يستلزم التدبّر في كلّ آية ذُكِرت فيها الجنّة باسمٍ خاصّ، وبما أنّه بحثٌ تفسيريٌّ طويل، فنقول اختصارًا :
ُأمّا مناسبة التعبير بالفردوس في قوله تعالى: ﴿أوْلَٓئٰكَِ هُمُ ٱلوَۡرٰثِوُنَ ١٠ ٱلَّذِينَ يَرِثُونَ ٱلۡفِرۡدَوۡسَ هُمۡ فِيهَا خَٰلِدُونَ﴾، فالفردوس هو أعلى الجنان وأفضلها، وهذا يناسبه أنّ الوارثين هم الأعلى والأفضل. ومن نال الأعلى والأفضل لا يُحرم من التمتّع بالأدنى.
وقد يقال: إنّ الجنّة كلّها فِردَوسٌ، فهي كلّها عالية إذا ما قورنت بالجحيم؛ قال تعالى: ﴿فَأُمَّا مَنۡ أوتِيَِ كِتَبَٰهُ بيَِمِينهِِ فَيَقُولُ هَاؤُٓمُ ٱقۡرَءُوا كِتَبٰيَِهۡ ١٩ إنِِِّيّ ظَنَنتُ َأنِّيِّ مُلَقٍٰ حِسَابيِهَۡ ٢٠ فَهُوَ فِيِ عيِشَة رَّاضِيةَ ٢١ فِيِ جَنةٍَّ عَاَلِيِةَ ٢٢ قُطُوفُهَا دَانيِةَٞ﴾. فيكون التعبير عن الجنّة بالفردوس تعبيرًا عن الجنّة نفسها باعتبار كونها عالية.
ويسري هذا الجواب في كلّ وصفٍ من أوصاف الجنّة، فهي جنّة المأوى أي مأوى المتّقين، وهي جنّة النعيم إذ فيها يتنعّمون، وهكذا... فما تغيير الوصف إلاّ لمناسبةٍ لفظيّة استدعته. فلتلاحَظ الآيات، ولتُراجع كتب التفسير المعنيّة بالبيان.
راجع على سبيل المثال : تفسير الكشّاف للزمخشريّ، وتفسير نظم الدرر للبقاعيّ، وتفسير مجمع البيان للطبرسيّ، وتفسير التحرير والتنوير لابن عاشور، وتفسير روح المعانيّ للألوسيّ، وتفسير الميزان للعلاّمّة الطباطبائيّ...
دمتم موفقين لكل خير